المقدمة: التركة بين الحق الشرعي والتعقيد الإجرائي

تُعد التركة مالًا مشتركًا بين الورثة بعد وفاة المورِّث، وتخضع أحكام قسمتها لأحكام الشريعة الإسلامية التي حددت بوضوح أنصبة الورثة. وفي المملكة العربية السعودية، تختص محاكم الأحوال الشخصية والمحاكم العامة بالنظر في مسائل التركات.
ورغم أن الحقوق الشرعية للورثة واضحة، إلا أن الإجراءات العملية—مثل حصر التركة وتقييمها وسداد ديونها والقسمة بين الورثة—كانت تمثل تحديًا بسبب طول الإجراءات وتقاطع الجهات.

ومع التحول الرقمي للقطاع العدلي، أصبحت إجراءات التركات أكثر تنظيمًا وسرعة، مما ساهم في تمكين الورثة من استلام حقوقهم وفق آليات واضحة وسهلة.

هذا المقال يشرح مراحل قسمة التركات في النظام السعودي، والضوابط الشرعية، والإجراءات القضائية الحديثة التي مكنت الورثة من الوصول إلى حقوقهم بأسرع وأسهل طريقة.


أولاً: إثبات الوفاة وحصر الورثة

الخطوة الأولى تبدأ بإثبات وفاة المورث وحصر ورثته عبر محكمة الأحوال الشخصية:

1. صك حصر الورثة

وهو وثيقة رسمية تتضمن:

  • أسماء الورثة الشرعيين

  • علاقتهم بالمتوفى

  • تحديد أصحاب الفروض والعصبات

  • بيان الأنصبة الشرعية لكل وارث

هذا الصك هو الأساس الذي تُبنى عليه جميع إجراءات التركة لاحقًا.

2. الولاية على القُصَّر

إذا كان بين الورثة قاصر، تعيّن المحكمة وليًا شرعيًا لإدارة نصيبه، ويظل أي تصرف بحصته تحت رقابة وإذن المحكمة، حمايةً لحقوقه.


ثانيًا: حصر أموال التركة وتصفية الحقوق المتعلقة بها

بعد حصر الورثة، تأتي أهم مرحلة: تحديد أصول التركة وخصومها.

1. حصر أصول التركة

ويشمل ذلك:

  • العقارات

  • الحسابات البنكية

  • المحافظ الاستثمارية والأسهم

  • المركبات

  • المحلات والسجلات التجارية

  • أي أموال أو حقوق مالية أخرى

تقوم الجهات الرسمية (مثل البنوك وكاتب العدل) بالتجاوب مع المحكمة لحصر هذه الأصول رسميًا.

2. سداد الحقوق المتعلقة بالتركة

تنفيذًا للقاعدة الشرعية: "لا تركة إلا بعد سداد الديون".

الأولوية تكون لـ:

  • ديون المتوفى

  • الوصايا الشرعية (في حدود الثلث)

  • تكاليف التجهيز والدفن

فقط بعد تصفية الحقوق تُقسم التركة على الورثة.


ثالثًا: القسمة الرضائية والقسمة القضائية

1. القسمة الرضائية (الأفضل والأسرع)

إذا اتفق الورثة البالغون على توزيع التركة، يتم توثيق اتفاقهم لدى كاتب العدل أو موثق مرخص.
ويتحول صك القسمة الموثق إلى سند تنفيذي يُلزم الجميع، ويُمكن تنفيذه مباشرة عند الإخلال.

مميزات القسمة الرضائية:

  • أسرع

  • أقل تكلفة

  • تُجنب الورثة النزاعات الطويلة

  • قابلة للتنفيذ مباشرة

2. القسمة القضائية (عند وجود نزاع أو قُصّر)

في حال عدم الاتفاق أو وجود قاصر، تتدخل المحكمة لإتمام القسمة:

أ. تعيين خبير مثمّن

تقوم المحكمة بندب خبير هندسي أو عقاري لتقييم أصول التركة وتقسيمها إلى حصص عادلة.

ب. بيع الأصول غير القابلة للقسمة عينًا

إذا كان الأصل غير قابل للقسمة دون ضرر (مثل منزل واحد)، تُقرر المحكمة بيعه في مزاد علني، ثم توزيع ثمنه على الورثة حسب الأنصبة.


رابعًا: المنصات الرقمية التي تُسرّع إجراءات التركات

بهدف رفع كفاءة الإجراءات، قدمت وزارة العدل خطوات تقنية ساعدت في تسهيل عمليات القسمة، مثل:

1. منصة ناجز

تُمكّن الورثة من:

  • تقديم طلبات إثبات الوفاة

  • إصدار صكوك حصر الورثة

  • تقديم طلبات القسمة
    وكل ذلك إلكترونيًا دون الحاجة لزيارة المحكمة إلا عند الضرورة.

2. الموثقون

إتاحة توثيق القسمة الرضائية خارج المحكمة عبر الموثقين المرخصين، مما قلل الازدحام وسرّع التنفيذ.


الخاتمة: نظام متوازن يجمع بين الشرع والحداثة

استطاع النظام السعودي تحديث إجراءات التركات بما يحقق التوازن بين:

  • الأحكام الشرعية الدقيقة في تقسيم الميراث

  • الإجراءات القضائية الحديثة التي تحفظ الحقوق وتُسرّع الوصول إليها

إن التشدد في سداد ديون المتوفى قبل القسمة يعزز العدالة، بينما تسهيل القسمة الرضائية والاعتماد على التوثيق كسند تنفيذي يقلل النزاعات ويحقق الاستقرار المالي للأسرة.

ويظل دور المحامي والمستشار القانوني جوهريًا في توجيه الورثة خلال مراحل الحصر والتصفية والتقسيم، لضمان إنهاء الإجراءات بسرعة ودون خلافات.